غير مصنف

سلاح غزة والفلسطينيين الجدد: ما على العالم أن يفهمه

20 عامًا وأكثر انقضت بالفعل على استشهاد الطفلين محمد الدرّة وفارس عودة، والذين ارتقيا شهيدين في العام 2000 في قطاع غزة، مخلّدين بموتهما التراجيدي اثنتين من أكثر الصور رمزيّةً في تاريخ الحكاية الفلسطينية، فالأولى هيّ صورة الطفل الذي يُقتل في حضن والده بزخاتٍ لا تتوقفُ من الرصاص الحي، أمّا الثانية فهيّ صورة الطفل الذي، وبجرأةٍ منقطعة النظير، يحملُ حجرًا في وجه الميركافاه. 

ولفترةٍ لن تكون بالطويلة، ستقفُ هاتان الصورتان شاهدًا على السرديّة التاريخية للملحمة الفلسطينية، مثيرةً في الذاكرة “المتخيلّة” غير المُعاشة كل تلك القصص الفظيعة عن نكبة 48 وما تلاها من مجازر وحملات تطهير عِرقي نفذتها دولة الفصل العنصري بحق الفلسطينيين. وإذا كانت إسرائيل قد نجحت وبفعل الزمن في دفنِ تاريخ نشأتها الدموي في مقبرة المحادثات والاتفاقيات الدوليّة، فقد حاولت جاهدةً أن تواري سوءتها بالمزيدِ من التنكيل بالفلسطينيين بما يُساهم في المراكمة على الصور المفجعة التي خرجت من غزة لتصبحَ قصة الدرّة وعودة مجرّد صفر صغير إلى جانب مجزرة جنين عام 2002 والتي راح ضحيتها أكثر من 500 فلسطيني، ثمّ لتصبحَ فكرة مناصرة الفلسطيني مستهلكة ومُحبطة أمام آلة بطشٍ لم تتوقف عن قتل الفلسطينيين منذ 70 عامًا وأكثر. وبالعودةِ إلى الطفلين، وفي قيمة الصورة، فقد خلقتا ولا زالت تصورًا عالميًا لثنائية حياة/موت الفلسطيني، فهو إمّا يعيشُ أعزلًا يقارعُ الميركافاه بالحجارة، أو يموتُ أعزلًا بلا درعٍ يحميه من الرغبة العارمة بقتله كبيرًا كان أو صغيرًا. ومن جانبٍ آخر، فقد تلائم هذا الموتُ الأسطوري للطفلين مع الفكرة التي سيحبذها العالم عند تخيلّه لهذه الضحيّة ذات التاريخِ الطويل مع الموتِ والتشريد. 

ولم يكن لينقضي الكثيرُ من الوقت، حتّى تتغيّر الخارطة الجغرافية والواقع السياسي في الأراضي الفلسطينية إثر انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 وتصدّر “حركة المقاومة الإسلامية حماس” للمشهد الفلسطيني والعالمي بعد الانقسام الفلسطيني وخطف الجندي جلعاد شاليط، وبرغبةٍ وأدواتٍ مختلفتين عمّا حملته نهايات تجربة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح مع خيار الكفاح المسلّح، بالذات بُعيد توقيع اتفاقية أوسلو وتوّجه المنظمة نحو الحوار والمفاوضات مع الإبقاء على خيار المقاومة المسلّحة حتّى انتفاضة الأقصى في العام 2002. 

غزة

أمّا ومع هذا الواقعِ الجديد، فقد حاول كل جانبٍ من الجانبين تطوير أدواته بما يتلائمُ وأهدافه. فمن جانبها، أطبقت إسرائيل حصارًا شاملًا على قطاع غزة، في محاولة لترويض وعزل حركة حماس عن مُحيطها السياسي والجغرافي منعًا لوصول السلاح إلى غزة أو وصول ما يُساهم في تطويره من أطراف أخرى كحزب الله وإيران خصوصًا بعد الحرب مع لبنان عام 2006 وتأكد إسرائيل من امتلاك حزب الله لصواريخ بعيدة المدى. في الوقتِ ذاته، فقد اضطرت إسرائيل للتخلّي عن بعض أدواتها أو استبدالها بأخرى، إذ لم يعد بوسعها مثلًا استخدام الطائرات المُقاتلة من نوع “أباتشي” مع استخدام مقاومة غزة للرشاشات الثقيلة القادرة على إسقاط هذه الطائرات التي لم يكن بوسعها التحليق لارتفاعات كبيرة لتنفيذ عمليات في غزة. فيما اعتمدت إسرائيل على سياسة “الاغتيال” والاستهداف المُباشر بالصواريخ بديلًا عن الاعتقال الذي لم يعد ممكنًا بعد الانسحاب من القطاع- وإن لم يكن فاعلًا في غزة بشكلٍ حقيقي سوى على نقاط التفتيش بعد توقيع اتفاقية أوسلو-.

أمّا فصائلُ المقاومةِ في القطاع، فقد تمكنتِ بدورها من تحقيق نقلة نوعيّة في زمنٍ يمكن وصفه بالقياسي- سيتعرضُ المقال لنقاش تأثير الزمن على صورة الفلسطيني- في نوعيّة وجودة السلاح، لينتقل الفلسطيني في غزة من استخدام الحجارة في ردع الميركافاه إلى استخدام الصواريخ الموّجهة كـ”الكورنيت” في أقل من 10 أعوام. وبتوظيفٍ لأفكارٍ جديدة كحفر الأنفاق للتسلل إلى الثكنات العسكرية كما حدث في 2014، وخطف الجنود واستخدامهم في تحرير الأسرى، واستخدام الطائرات المسيّرة والمصنّعة محليًا، تمكنّت “فصائل المقاومة” في قطاع غزة من إعادة الصراع الفلسطيني إلى الواجهة من جديد بعد سنواتٍ عديدة من تراجع القضيّة، ولكن، بقراءةٍ جديدة. 

وإن كانت غزة قد نجحت في تحطيم الواقع الذي حاول الإسرائيلي فرضه بدحض حلم التحرر الفلسطيني بعد تحوّل منظمة التحرير إلى مؤسسة شبه حكوميّة، فإنّ إسرائيل سعت جاهدةً لتحطيم أي فرصة لغزة للظهور بمظهرِِ المنتصر في أيٍ من الحروب الأربعة خلال السنوات ال12 الأخيرة. وفيما قد يُعزي البعض هذا الإصرار الإسرائيلي على رفع رتم ومقدار القوة المستخدم لتدمير البنيّة التحتيّة لغزة في الأيام الأخيرة للحروب الأربعة على القطاع، للعبة السياسية في الداخل الإسرائيلي، فإنّ العقيدة الأمنيّة الإسرائيلية ترى الأمر بمنظورٍ آخر: لا يمكنُ لدولة إسرائيل أن تنعم بالطمأنينة طالما لا زال الفلسطيني يشعرُ أن بوسعه أن يحقق شيئًا من خلال السلاح. 

وقد شهدتُ الحرب الأخيرة مشهدًا مثاليًا قادرًا على تمثيل هذه الفكرة، ففي الوقتِ الذي كانت فيه جبهة غزة مشتعلة، فقد شهدت مدن الداخل المُحتل حِراكًا قويًا تسبب في مغادرة جميع السكّان اليهود من بعض المناطق كاللد، في وقتٍ قررت فيه مدن الضفة الغربيّة خوض غمار المعركة من خلال الإضراب الكامل. ولمّا تمّكن الفلسطيني لمرّة واحدة خلال تاريخ احتلاله من رسم صورة لمشهد التحرير، وبثلاث جبهات مشتعلة، كان أخطرها على الكيان هو حِراك الداخل الذي شكّل صدمةً لمنظومة الإحتلال، كان هناك توقعاتٍ كبيرة باغلاق جبهة غزة للتفرّغ إلى حِراكي الداخل والضفة الغربيّة. وعلى خلاف هذا، قررت إسرائيل الخوض في الجبهات الثلاث ساعيةً لتحقيق شيء واحد: تحطيم فكرة لم تكن قد تشكلّت بعد في اللاوعي الفلسطيني الجمعي إزاء توّحد الجبهات الثلاث في مقارعة واحدة بالتزامن. ببساطة، قرار استكمال الحرب لم يكن خيارًا، بل واقعًا أشبه بالكابوس فكرة وجود الدولة الإسرائيلية بأكملها، ومسارًا لا بد من خوضه خوفًا من صحوةٍ فلسطينية جمعيّة.

الربيعُ العربي وصفقة القرن

في العام 1983، صدر فلمٌ أمريكي بعنوان “صفقة القرن” أو “Deal of the Century” بلغته الأصليّة. يستعرضُ الفلم الأمريكي مجموعةً من عمليات تجارة السلاح في واحدة من دول أمريكا الجنوبية. حيثُ يقرر تاجر سلاحٍ أمريكي بيع شحنات من الأسلحة المتطورة لدكتاتور مخبول لقمع ثورة كادت تُطيح به. وبالفعل، ينجح الدكتاتور في القضاء على معارضيه. ولمّا رأى تجار السلاح الأمريكيون اكتفاء الديكتاتور بما اشتراه من سلاح لتمكنّه من إخماد الثورة تقريبًا، قرروا بيع السلاح للثوّار، لتشتعل الساحة مجددًا، وببساطة: تعودُ الحاجة لشراء المزيدِ من السلاح.

ومع وفرة مراكز الصِراع في المنطقة العربيّة سواء في آسيا أو شمال أفريقيا، توّفر السلاح بكثافة أيضًا وسط رغبة مصنعيه بمزيدٍ من عمليات الشراء. وإذ تتواصل الثورة في علم صناعة السلاح، فيما تزداد حدّة المنافسة في الإتجار بهِ بشكلٍ علني، وغير علني، فقد عملت الدول الاستعمارية، والدول ذات الطموح الاستعماري، على مدار السنين الأخيرة، على تعبئة المنطقة العربية وغيرها بالسلاح، متحركةً في الوقتِ ذاته جهة تأجيج الصراعات الطائفية، الحِراكات الشعبية وغيرها، ملقيّةً بالسلاح للطرفين، لأنّه مربح من جهة، ولأنّ الصراع في المنطقة يعطيها المزيد من النفوذ.

لقد قصف مقر وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، بصاروخ أمريكي الصنع. أي مشهد عبثي كانت تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية، وأي صورة فيها من الرمزيّة والتناقض ما في هذه الصورة، لتدرك أن مرّد كل هذا العنف سيكون عليهم؟ كان من الجهل اعتقاد هذه الدول أنّ هذا السلاح سيبقى موجهًا نحو الجسد العربي، وكان من الجهل اعتقادهم أيضًا أن الفلسطيني سيظل يحمل حجرًا ومقلاعًا في مواجهة الموت بطائرات الكواد كابتر والـ f35 ومدافع الهاوتزر، والطائرات الموّجهة الكترونيًا. لم يكن في حسبانهم للحظة أنّ نهاية ضخ السلام في المنطقة سيعني بطريقة أو بأخرى وصوله للفلسطيني المستعد لمقارعة الموتِ بكل الطرق، ضاربًا بعرض الحائط كل ما يدور في الفُلك العالمي. 

شيطنة غزة والفلسطيني الجديد

الزمنُ عاملًا

وعلى مدار 60 عامًا من الصراع في مرحلة ما بعد النكبة، وصولًا إلى العام 2008، كان الفلسطينيُ قد جرّب بالفعل الخوضَ في كافة المسارات الممكنة والتي قد تساعده في نيل حريّته المنشودة، بالانتقال من الكفاحِ إلى الحوار إلى السلاح إلى المفاوضات. وفي الوقتِ الذي كان فيه شبه إجماع عالمي على ضرورة استمرار وجود إسرائيل في المنطقة العربيّة من خلال دعمها في كافة السراديب الأمميّة وتزويدها بكل ما تحتاج من السلاح، كانت صورة الفلسطيني ترتسم شيئًا فشيئًا في الوعي العالمي، مُطابقةً لصورتي الدرّة وعودة تمامًا: جسدٌ هزيلٌ في مواجهة قوة جبّارة. سواء بموتِ الدرّة بين أحضان أبيه، وهو موتُ المستقبلِ بين يدي الماضي، أو موتُ عودة بحجرٍ في يده في مواجهة مدرّعة، وهو موتُ المستقبل في طريقه نحو ذاته، كان هذا هو الحضور الوحيد للفلسطيني في المخيال العالمي: إمّا موتٌ تراجيديٌ أو موتٌ أسطوري. 

وفيما استغرق تشكيل هذه الصورة 60 عامًا انطلاقًا من النكبة، فقد طرأ تحولٌ سريعٌ على هذه الصورة، لم يستغرق سوى 10 سنوات، حتّى ظهر فلسطينيون جُدد، يُطلقون الصواريخ بعيدة المدى من تحت الأرض، يسيرون الطائرات، ويختطفون الجنود من خلال أنفاقٍ تحت الأرض.

لقد كان هذا الفلسطيني الجديد طارئًا على الوعي العالمي، إذ جاء بصورةٍ مناقضةٍ لما اعتاد العالم أن يراه، فهو ليس أعزلًا تمامًا، لا يحملُ حجرًا، بل صاروخًا، يتدارى ولا يمكنُ ايجاده بسهولة، ويسيّر الطائرات. حتّى ومع عملية ميونخ في 72، وخطف الطائرة في 69، حرب بيروت وكافة الصفعات التاريخية التي وجهها الفدائيون الفلسطينييون لإسرائيل، لم يخرج الفلسطيني يومًا من المخيال العالمي كضحيّة كما فعل بانتقاله السريع في غزة من الحجارة إلى الصواريخ، فهو لا زال يقارعُ الطائرة والمدرّعة بإسلحةٍ لا تسمن ولا تغني من جوعٍ في مواجهتها.

وعلى اعتبار كل ماضي الكفاح الفلسطيني قد ارتكز على الأسلحة الخفيفة كالمسدسات والبنادق والرشاشات في أفضل الأحوال، فإنّ الصواريخ بعيدة المدى شكلّت نقلةً نوعيةً لم يكن بوسع الإسرائيلي تحملّها، كما ولم يكن بوسع “المتفرج” العالمي استيعابها، فقد كان آخر ما شاهدهُ من “مسلسل” الصراع الفلسطيني هو انتفاضة الأقصى عام 2000 التي التقطت فيها الصورتين أعلاه، أمّا ومع العودة المفاجئة للشاشة على القضيّة الفلسطينية خلال معركة 2009، كان قد شاهد فلسطينيًا جديدًا لم يكن يعرفهُ من قبل، إلا أنّ الزمن لا يقفُ وحيدًا في هذا الصدد.

إيران والإسلاموفوبيا عاملًا

لقد تنامى وجود الفلسطينييون الجدد مع تنامي اليمين المتطرّف في أوروبا وأمريكا، بعد سنواتٍ من الهجرة غير الشرعيّة لأوروبا، والتي سبقتها أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهور تيارات الخوف من الإسلام فيما أسمي بالـ “إسلاموفوبيا”. 

وبالنظرِ إلى التحوّل الكبير في طبيعة المرتكزات الأيديولوجية لحامل السلاح الفلسطيني، والانتقال من حركتي فتح والجبهة الشعبيّة المتسمتين بطابعٍ أقرب إلى العلمانية إلى حماس والجهاد الإسلامي ذوات التوّجهات العقائدية الدينية، فلم يكن من السهل على الوعي العالمي المتأثر بحملات اليمين والإسلاموفوبيا تقبّل هذا الفلسطيني الذي لا يأتي مناقضًا وحسب للصورة الفلسطينية التقليدية حاملًا حجره، ولا يأتي بعقيدةٍ مقبولةٍ في السياق الأوروبي والعالمي، بل يأتي مرتديًا العباءة ذاتها التي دُفع الرأي العالمي العام للنفورِ والخوفِ منها على مدار سنوات.

وبعلاقة علنيّة مع إيران، لم يكن هناك ما سيخدمُ الرواية الإسرائيلية أكثر. فمنذُ الحرب الشاملة على العِراق، وبدء الحديث عن أسلحة الدمار الشامل، وبعد الانتهاء من ملف طالبان، تحوّلت الأنظار إلى الملف الإيراني، وضرورة خلق حالة من الصراع المستمر في المنطقة بما يسمحُ ويبرر الوجود الخارجي في المنطقة العربيّة. أمّا وبعد تأجيج الصراعات الطائفيّة في العِراق على خلفية الصراع بين الشيعة والسنّة، والمحاذير من السيطرة الإيرانية على مناطق الوجود السنّي وبقيادة السعوديّة، فقد تحولت إيران في الوعي العربي والعالمي بالفعل إلى خطرٍ يجبُ الحذر منه. 

ولمّا كان من الصعبِ على “فصائل مقاومة” غزّة العثور على مصدر تسليح مستمر غير مشروط قبيل ثورات الربيع العربي وحتّى بعدها، فقد كانت العلاقة مع إيران أساسيةً لإرساء قواعد وجود ثابتة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة. علاقة سمحت بالفعل بانتقال الفعل المقاوم الفلسطيني من توظيف الحجر والمقلاع إلى توظيف الصواريخ، لكنّها ساهمت أيضًا، وبشكلٍ رئيسي، في عزل هذا الفلسطيني. 

الخطابُ عاملًا

بعد انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، تلاشى الوجود الإسرائيلي من القطاع المحاصر بشكلٍ عام، مع بقاء السيطرة على الحدود والتحكّم الكامل بعمليّة العبور من وإلى القطاع. وقد كان لغيابِ التواجدِ الفيزيائي والاحتكاك المباشر أثره الواضح على الوعي الفلسطيني التراكمي داخل القطاع، تحديدًا بعد تصدّر حركة حماس للمشهد في قطاع غزة. فحركة المقاومة الإسلامية حماس، والمرتكزة في جوهرها على منظور ديني للقضيّة، تعتبرُ المواجهة التاريخية مسارًا دينيًا مرتبطًا بشكلٍ مباشر بوعد التحرير الآلهي الوارد في القرآن. وقد شكّلت عقيدتها مع غياب الإسرائيلي من الصورة ثنائية يمكن الإشارة لها كالتالي: الغياب/التحرير، وهو ما يعني باختصار أنّ ما حدثَ في قطاع غزة من انسحاب للوجود الإسرائيلي، يتم تأويله من المنظور الديني كمقدمة وخطوة أولى في سبيل تحقيق الوعد الآلهي بالتحرير الكامل، من البحرِ إلى النهر. 

وقد ترجمت الحركة الإسلامية هذا التوّجه برفضها الانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية بدايةً لـ”اعتراف المنظمة بدولة إسرائيل”، وتبنت خطابًا سياسيًا يرتكز على أسس وقراءات عقائدية في تغييب واضح للواقع المُعاش في الأروقة العالمية، وعدم انتباه لتأثير الرواية الجديدة للفلسطينيين الجُدد على المتلقي العالمي. 

وفي حين نجحت إسرائيل، بمساعدة الظروف وتواطؤ العالم على الشعب الفلسطيني، في جر المنظمة لواقعٍ يتجاوز الحقوق التاريخية بإعلان دولة فلسطين على حدود ال67 بعد أوسلو، فقد تجاوز العالم بوعيه ولا وعيه الجمعي أي طرح تحررّي شمولي كالذي تبنّاه الفلسطينيون الجُدد. 

وقد ساهم الخطاب التحرري للفلسطيني حامل الصاروخ بتقديمه بصورةٍ عكسيّة للمتلقي العالمي، فهو يأتي مناقضًا أولًا لصورة الضحيّة التقليدية المعروفة عن الفلسطيني الأعزل، وثانيًا بعلاقاتٍ تمثل أزمة للذهن العالمي، وثالثًا بخطابٍ تجاوزه الواقع الفعلي.

ما على العالم أن يفهمه

الوعي البشري ليس مبنيًا من الطوب أو الخرسانة، إنّه قابل للتشكّل وفقًا للمعطيات المتدفقّة صوبه، والعيش في دوامة “الشعب الأعزل” لن يمثل خطابًا قد يستطيع الصمود لفترةٍ طويلة، وربما حتّى يكون من الخاطئ استخدامه وتوظيفه في بعض السياقات، فصحيح أنّ الفلسطيني في الداخل لا زال يحمل الحجر والمقلاع، لكنّه في أماكن أخرى يُقاتل بطرق جديدة.  إنّ استمرار اسطورة “الشعب الأعزل” خلقت ولا زالت تخلق إشكالية في النظر إلى القضيّة الفلسطينية وبالتحديد قطاع غزة، عطفًا على المعُطيات والعوامل التي تعرّض لها المقال أعلاه. 

فهذا الفلسطيني الجديد الذي يحمل سلاحًا متطورًا لا زال لم يدخل في الوعي الجمعي العالمي كفلسطيني أيضًا، وكضحيّة أيضًا، فتمت شيطنته، وتم اعتباره إرهابيًا، لأنّه متنافي مع صورة الطفل في وجه المدرّعة، مع أنّ الصورة الأخيرة لا زالت حاضرةً وحيّةً حتّى اللحظة. وهيّ الصورة ذاتها التي خلقت التعاطف مع القضيّة الفلسطينية، إلا أنّها الصورة التي تحبذها إسرائيل، فهيّ تقتل هذا الفلسطيني من 70 عامًا وأكثر، وقادرة على إدارة ردّات الفعل العالمية تجاه قتله، فلماذا تستبدله بواحدٍ آخر لا يموتُ مجانًا؟

ربما، يجبُ على هؤلاء الفلسطينيون الجُدد الانتباه إلى عددٍ من العوامل التي تُساهم في إقصائهم من الصورة العالمية والعربيّة، ومنها الخطاب المتوازن البنّاء، والعلاقات الإقليمية. 

في المقابل، يجبُ على العالم أن يدرك أن الفلسطيني هو الضحيّة ولو ركب الطائرة مقاتلة، او امتلك مدرعة أو غوّاصة بحريّة، عليه أن يدرك أنّ هذا الفلسطيني لم يكن ليستمر في تقديم موتهِ مجانًا إلى الأبد، خصوصًا مع ثورة تصنيع السلاح والزّج به في المنطقة العربيّة. إن عملًا كبيرًا على كافة المؤسسات والمستويات الداعمة للقضيّة يجبُ أن يتم، فالمقاومة بكافة أشكالها تعتبرُ حقًا مقدسًا ومكفولًا في كافة التشريعات والمعاهدات الدوليّة، وعلى رأسها اتفاقية جنيف لعام 1949 والتي كفلت الحق في المقاومة المسلّحة، فإذا ما كان القانون الدولي والتشريع يمنح الفلسطيني الحق في الدفاع عن نفسه أمام الأسلحة المحرّمة دوليًا، فمن يكون المكلّف بالدفاع عن حق الفلسطيني في حمل السلاح؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى